الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **
*3* وَقَوْلِهِ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ يُقَالُ هُوَ زَوْرٌ وَهَؤُلَاءِ زَوْرٌ وَضَيْفٌ وَمَعْنَاهُ أَضْيَافُهُ وَزُوَّارُهُ لِأَنَّهَا مَصْدَرٌ مِثْلُ قَوْمٍ رِضاً وَعَدْلٍ يُقَالُ مَاءٌ غَوْرٌ وَبِئْرٌ غَوْرٌ وَمَاءَانِ غَوْرٌ وَمِيَاهٌ غَوْرٌ وَيُقَالُ الْغَوْرُ الْغَائِرُ لَا تَنَالُهُ الدِّلَاءُ كُلَّ شَيْءٍ غُرْتَ فِيهِ فَهُوَ مَغَارَةٌ تَزَّاوَرُ تَمِيلُ مِنْ الزَّوَرِ وَالْأَزْوَرُ الْأَمْيَلُ الشرح: قوله: (باب إكرام الضيف وخدمته إياه بنفسه وقوله تعالى: قوله: (قال أبو عبد الله يقال هو زور وضيف ومعناه أضيافه وزواره، لأنها مصدر مثل قوم رضا وعدل، ويقال ماء غور وبئر غور وماءان غور ومياه غور) قلت: ثبت هذا في رواية أبي ذر عن المستملي والكشميهني فقط، وهو مأخوذ من كلام الفراء قال في " معاني القرآن " قوله تعالى: قلت. وهذا قول أبي عبيدة وجزم به في الصحاح. قوله: (ويقال الغور الغائر لا تناله الدلاء، كل شيء غرت فيه فهو مغارة) هو كلام أبي عبيدة أيضا. وقال أبو عبيدة: غور أي غائر والغور مصدر. قوله: (تزاور تميل من الزور والأزور الأميل) . قلت. هو كلام أبي عبيدة قاله في تفسير سورة الكهف في قوله تعالى: ثم ذكر ثلاثة أحاديث: الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْكَعْبِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَالضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَمَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَثْوِيَ عِنْدَهُ حَتَّى يُحْرِجَهُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ مِثْلَهُ وَزَادَ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَصْمُتْ الشرح: حديث أبي شريح " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه " وقوله في الطريق الثانية " حدثنا إسماعيل أنبأنا مالك مثله " يعني بإسناده، وقوله: " أو ليصمت " ضبطه النووي بضم الميم وقال الطوفي سمعناه بكسرها وهو القياس كضرب يضرب، وقد استشكل التخيير الذي في قوله: " فليقل خيرا أو ليصمت " لأن المباح إذا كان في أحد الشقين لزم أن يكون مأمورا به فيكون واجبا أو منهيا فيكون حراما، والجواب عن ذلك أن صيغة أفعل في قوله: " فليقل " وفي قوله: " ليسكت " لمطلق الإذن الذي هو أعم من المباح وغيره؛ نعم يلزم من ذلك أن يكون المباح حسنا لدخوله في الخير، ومعني الحديث أن المرء إذا أراد أن يتكلم فليفكر قبل كلامه، فإن علم أنه لا يترتب عليه مفسدة ولا يجر إلى محرم ولا مكروه فليتكلم، وإن كان مباحا فالسلامة في السكوت لئلا يجر المباح إلى المحرم والمكروه. وفي حديث أبي ذر الطويل الذي صححه ابن حبان " ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه". قوله: (ولا يحل له أن يثوي عنده) قال ابن التين: هو بكسر الواو وبفتحها في الماضي وبكسرها في المضارع. قوله: (حتى يحرجه) بحاء مهملة ثم جيم من الحرج وهو الضيق. والثواء بالتخفيف والمد الإقامة بمكان معين، قال النووي في رواية لمسلم " حتى يؤثمه " أي يوقعه في الإثم، لأنه قد يغتابه لطول مقامه أو يعرض له بما يؤذيه أو يظن به ظنا سيئا، وهذا كله محمول على ما إذا لم تكن الإقامة باختيار صاحب المنزل بأن يطلب منه الزيادة في الإقامة أو يغلب على ظنه أنه لا يكره ذلك، وهو مستفاد من قوله: " حتى يحرجه " لأن مفهومه إذا ارتفع الحرج أن ذلك يجوز. ووقع عند أحمد في رواية عبد الحميد بن جعفر عن سعيد المقبري عن أبي شريح " قيل يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يؤثمه؟ قال: يقيم عنده لا يجد شيئا يقدمه " أخرجه أحمد والحاكم وفيه قصة لسلمان مع ضيفه حيث طلب منه زيادة على ما قدم له فرهن مطهرته بسبب ذلك ثم قال: الحمد لله. قال ابن بطال إنما كره له المقام بعد الثلاث لئلا يؤذيه فتصير الصدقة منه على وجه المن والأذى. قلت: وفيه نظر، فإن في الحديث " فما زاد فهو صدقة " فمفهومه أن الذي في الثلاث لا يسمى صدقة، فالأولى أن يقول لئلا يؤذيه فيوقعه في الإثم بعد أن كان مأجورا. قوله في حديث أبي شريح (جائزته يوم وليلة) قال السهيلي: روي جائزته بالرفع على الابتداء وهو واضح، وبالنصب على بدل الاشتمال أي يكرم جائزته يوما وليلة. قوله: (والضيافة ثلاثة أيام فيما بعد ذلك فهو صدقة) قال ابن بطال سئل عنه مالك فقال: يكرمه ويتحفه يوما وليلة وثلاثة أيام ضيافة. قلت: واختلفوا هل الثلاث غير الأول أو يعد منها؟ فقال أبو عبيد يتكلف له في اليوم الأول بالبر والإلطاف، وفي الثاني والثالث: يقدم له ما حضره ولا يزيده على عادته، ثم يعطيه ما يجوز به مسافة يوم وليلة وتسمى الجيزة، وهي قدر ما يجوز به المسافر من منهل إلى منهل، ومنه الحديث الآخر " أجيزوا الوقد بنحو ما كنت أجيزهم " وقال الخطابي: معناه أنه إذا نزل به الضيف أن يتحفه ويزيده في البر على ما بحضرته يوما وليلة، ولا اليومين الأخيرين يقدم له ما يحضره، فإذا مضى الثلاث فقد قضى حقه فما زاد عليه مما يقدمه له يكون صدقة. وقد وقع في رواية عبد الحميد بن جعفر عن سعيد المقبري عن أبي شريح عند أحمد ومسلم بلفظ " الضيافة ثلاثة أيام، وجائزته يوم وليلة " وهذا يدل على المغايرة، ويؤيده ما قال أبو عبيد. وأجاب الطيبي بأنها جملة مستأنفة بيان للجملة الأولى، كأنه قيل كيف يكرمه؟ قال: جائزته. ولا بد من تقدير مضاف أي زمان جائزته أي بره والضيافة يوم وليلة، فهذه الرواية محمولة على اليوم الأول، ورواية عبد الحميد على اليوم الأخير أي قدر ما يجوز به المسافر ما يكفيه يوم وليلة، فينبغي أن يحمل على هذا عملا بالروايتين انتهى. ويحتمل أن يكون المراد بقوله: " وجائزته " بيانا لحالة أخرى وهي أن المسافر تارة يقيم عند من ينزل عليه فهذا لا يزاد على الثلاث بتفاصيلها، وتارة لا يقيم فهذا يعطى ما يجوز به قدر كفايته يوما وليلة، ولعل هذا أعدل الأوجه والله أعلم. واستدل بجعل ما زاد على الثلاث صدقة على أن الذي قبلها واحب، فإن المراد بتسميته صدقة التنفير عنه لأن كثيرا من الناس خصوصا الأغنياء يأنفون غالبا من أكل الصدقة، وقد تقدمت أجوبة من لم يوجب الضيافة في شرح حديث عقبة، واستدل ابن بطال لعدم الوجوب بقوله: " جائزته " قال: والجائزة تفضل وإحسان ليست واجبة. وتعقب بأنه ليس المراد بالجائزة في حديث أبي شريح العطية بالمعنى المصطلح وهي ما يعطاه الشاعر والوافد، فقد ذكر في الأوائل أن أول من سماها جائزة بعض الأمراء من التابعين وأن المراد بالجائزة في الحديث أنه يعطيه ما يغنيه عن غيره كما تقدم تقريره قبل. قلت: وهو صحيح في المراد من الحديث، وأما تسمية العطية للشاعر ونحوه جائزة فليس بحادث: للحديث الصحيح " أجيزوا الوفد " كما تقدمت الإشارة إليه، ولقوله صلى الله عليه وسلم للعباس " ألا أعطيك، ألا أمنحك، ألا أجيزك "؟ فذكر حديث صلاة التسبيح فدل على أن استعمالها كذلك. ليس بحادث. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَصْمُتْ الشرح: حديث أبي هريرة فيه أورده من وجهين عنه وفي أحدهما ما ليس في الآخر، وقد تقدم كل ذلك في " باب إكرام الجار " باختلاف ألفاظه وبيان المراد به. قال الطوفي: ظاهر الحديث انتفاء الإيمان عمن قال ذلك، وليس مرادا بل أريد به المبالغة كما يقول القائل: إن كنت ابني فأطعني، تهييجا له على الطاعة، لا أنه بانتفاء طاعته ينتفي أنه ابنه. الحديث: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ تَبْعَثُنَا فَنَنْزِلُ بِقَوْمٍ فَلَا يَقْرُونَنَا فَمَا تَرَى فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ الشرح: حديث عقبة بن عامر " قلنا يا رسول الله، إنك تبعثنا بقوم فلا يقروننا " الحديث وقد تقدم شرحه في كتاب المظالم. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَصْمُتْ الشرح: حديث أبي هريرة فيه أورده من وجهين عنه وفي أحدهما ما ليس في الآخر، وقد تقدم كل ذلك في " باب إكرام الجار " باختلاف ألفاظه وبيان المراد به. قال الطوفي: ظاهر الحديث انتفاء الإيمان عمن قال ذلك، وليس مرادا بل أريد به المبالغة كما يقول القائل: إن كنت ابني فأطعني، تهييجا له على الطاعة، لا أنه بانتفاء طاعته ينتفي أنه ابنه. *3* الشرح: قوله: (باب صنع الطعام والتكلف للضيف) ذكر فيه حديث أبي جحيفة في قصة سلمان وأبي الدرداء، وهو ظاهر فيما ترجم له، وقد تقدم إيضاح ذلك مع بقية شرحه في كتاب الصيام. الحديث: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ حَدَّثَنَا أَبُو الْعُمَيْسِ عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً فَقَالَ لَهَا مَا شَأْنُكِ قَالَتْ أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَاماً فَقَالَ كُلْ فَإِنِّي صَائِمٌ قَالَ مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ فَأَكَلَ فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ فَقَالَ نَمْ فَنَامَ ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ فَقَالَ نَمْ فَلَمَّا كَانَ آخِرُ اللَّيْلِ قَالَ سَلْمَانُ قُمْ الْآنَ قَالَ فَصَلَّيَا فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقّاً وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقّاً وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقّاً فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَ سَلْمَانُ أَبُو جُحَيْفَةَ وَهْبٌ السُّوَائِيُّ يُقَالُ وَهْبُ الْخَيْرِ الشرح: قوله: (أبو جحيفة وهب السوائي) يعني بضم المهملة والمد (وهب الخير) أي كان يقال له وهب الخير، وهذا لم يقع في رواية أبي ذر. ووقع في التكلف للضيف حديث سلمان " نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتكلف للضيف " أخرجه أحمد والحاكم، وفيه قصة سلمان مع ضيفه حيث طلب منه زيادة على ما قدم له فرهن مطهرته بسبب ذلك، ثم قال الرجل لما فرغ " الحمد لله الذي قنعنا بما رزقنا. فقال له سلمان: لو قنعت ما كانت مطهرتي مرهونة". *3* الشرح: قوله: (باب ما يكره من الغضب والجزع عند الضيف) ذكر فيه حديث عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق في قصة أضياف أبي بكر. الحديث: حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْجُرَيْرِيُّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ تَضَيَّفَ رَهْطاً فَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ دُونَكَ أَضْيَافَكَ فَإِنِّي مُنْطَلِقٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَافْرُغْ مِنْ قِرَاهُمْ قَبْلَ أَنْ أَجِيءَ فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَأَتَاهُمْ بِمَا عِنْدَهُ فَقَالَ اطْعَمُوا فَقَالُوا أَيْنَ رَبُّ مَنْزِلِنَا قَالَ اطْعَمُوا قَالُوا مَا نَحْنُ بِآكِلِينَ حَتَّى يَجِيءَ رَبُّ مَنْزِلِنَا قَالَ اقْبَلُوا عَنَّا قِرَاكُمْ فَإِنَّهُ إِنْ جَاءَ وَلَمْ تَطْعَمُوا لَنَلْقَيَنَّ مِنْهُ فَأَبَوْا فَعَرَفْتُ أَنَّهُ يَجِدُ عَلَيَّ فَلَمَّا جَاءَ تَنَحَّيْتُ عَنْهُ فَقَالَ مَا صَنَعْتُمْ فَأَخْبَرُوهُ فَقَالَ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَسَكَتُّ ثُمَّ قَالَ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَسَكَتُّ فَقَالَ يَا غُنْثَرُ أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ إِنْ كُنْتَ تَسْمَعُ صَوْتِي لَمَّا جِئْتَ فَخَرَجْتُ فَقُلْتُ سَلْ أَضْيَافَكَ فَقَالُوا صَدَقَ أَتَانَا بِهِ قَالَ فَإِنَّمَا انْتَظَرْتُمُونِي وَاللَّهِ لَا أَطْعَمُهُ اللَّيْلَةَ فَقَالَ الْآخَرُونَ وَاللَّهِ لَا نَطْعَمُهُ حَتَّى تَطْعَمَهُ قَالَ لَمْ أَرَ فِي الشَّرِّ كَاللَّيْلَةِ وَيْلَكُمْ مَا أَنْتُمْ لِمَ لَا تَقْبَلُونَ عَنَّا قِرَاكُمْ هَاتِ طَعَامَكَ فَجَاءَهُ فَوَضَعَ يَدَهُ فَقَالَ بِاسْمِ اللَّهِ الْأُولَى لِلشَّيْطَانِ فَأَكَلَ وَأَكَلُوا الشرح: حديث عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق في قصة أضياف أبي بكر، وقد تقدم شرحه في علامات النبوة من الترجمة النبوية، وأخذ الغضب منه من قول عبد الرحمن فعرفت أنه يجد علي وهو من الموجدة وهي الغضب، وقد وقع التصريح بذلك في الطريق التي بعد هذه حيث قال فيه: " فغضب أبو بكر". وقوله: " الأولى للشيطان " أي الحالة التي غضب فيه وحلف، وتقدم له توجيه متعقب. *3* فِيهِ حَدِيثُ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشرح: قوله (باب قول الضيف لصاحبه والله لا آكل حتى تأكل) ذكر فيه حديث أبي جحيفة، يشير إلى قصة أبي الدرداء وسلمان وقد تقدم شرحها في كتاب الصيام، ولم تقع هذه الترجمة ولا هذا التعليق في رواية أبي ذر، وإنما ساق قصة أضياف أبي بكر تلو الطريق التي قبلها، وهي من هذا الوجه مختصرة، وسليمان في سندها هو التيمي. الحديث: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا جَاءَ أَبُو بَكْرٍ بِضَيْفٍ لَهُ أَوْ بِأَضْيَافٍ لَهُ فَأَمْسَى عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا جَاءَ قَالَتْ لَهُ أُمِّي احْتَبَسْتَ عَنْ ضَيْفِكَ أَوْ عَنْ أَضْيَافِكَ اللَّيْلَةَ قَالَ مَا عَشَّيْتِهِمْ فَقَالَتْ عَرَضْنَا عَلَيْهِ أَوْ عَلَيْهِمْ فَأَبَوْا أَوْ فَأَبَى فَغَضِبَ أَبُو بَكْرٍ فَسَبَّ وَجَدَّعَ وَحَلَفَ لَا يَطْعَمُهُ فَاخْتَبَأْتُ أَنَا فَقَالَ يَا غُنْثَرُ فَحَلَفَتْ الْمَرْأَةُ لَا تَطْعَمُهُ حَتَّى يَطْعَمَهُ فَحَلَفَ الضَّيْفُ أَوْ الْأَضْيَافُ أَنْ لَا يَطْعَمَهُ أَوْ يَطْعَمُوهُ حَتَّى يَطْعَمَهُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ كَأَنَّ هَذِهِ مِنْ الشَّيْطَانِ فَدَعَا بِالطَّعَامِ فَأَكَلَ وَأَكَلُوا فَجَعَلُوا لَا يَرْفَعُونَ لُقْمَةً إِلَّا رَبَا مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرُ مِنْهَا فَقَالَ يَا أُخْتَ بَنِي فِرَاسٍ مَا هَذَا فَقَالَتْ وَقُرَّةِ عَيْنِي إِنَّهَا الْآنَ لَأَكْثَرُ قَبْلَ أَنْ نَأْكُلَ فَأَكَلُوا وَبَعَثَ بِهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ أَنَّهُ أَكَلَ مِنْهَا الشرح: قوله (باب قول الضيف لصاحبه والله لا آكل حتى تأكل) ذكر فيه حديث أبي جحيفة، يشير إلى قصة أبي الدرداء وسلمان وقد تقدم شرحها في كتاب الصيام، ولم تقع هذه الترجمة ولا هذا التعليق في رواية أبي ذر، وإنما ساق قصة أضياف أبي بكر تلو الطريق التي قبلها، وهي من هذا الوجه مختصرة، وسليمان في سندها هو التيمي. *3* الشرح: قوله: (باب إكرام الكبير، ويبدأ الأكبر بالكلام والسؤال) المراد الأكبر في السن إذا وقع التساوي في الفضل، وإلا فيقدم الفاضل في الفقه والعلم إذا عارضه السن. الحديث: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ مَوْلَى الْأَنْصَارِ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَسَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ بْنَ مَسْعُودٍ أَتَيَا خَيْبَرَ فَتَفَرَّقَا فِي النَّخْلِ فَقُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ وَحُوَيِّصَةُ وَمُحَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَكَلَّمُوا فِي أَمْرِ صَاحِبِهِمْ فَبَدَأَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَكَانَ أَصْغَرَ الْقَوْمِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَبِّرْ الْكُبْرَ قَالَ يَحْيَى يَعْنِي لِيَلِيَ الْكَلَامَ الْأَكْبَرُ فَتَكَلَّمُوا فِي أَمْرِ صَاحِبِهِمْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَسْتَحِقُّونَ قَتِيلَكُمْ أَوْ قَالَ صَاحِبَكُمْ بِأَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْكُمْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْرٌ لَمْ نَرَهُ قَالَ فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ فِي أَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْهُمْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَوْمٌ كُفَّارٌ فَوَدَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قِبَلِهِ قَالَ سَهْلٌ فَأَدْرَكْتُ نَاقَةً مِنْ تِلْكَ الْإِبِلِ فَدَخَلَتْ مِرْبَداً لَهُمْ فَرَكَضَتْنِي بِرِجْلِهَا قَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ بُشَيْرٍ عَنْ سَهْلٍ قَالَ يَحْيَى حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ مَعَ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ بُشَيْرٍ عَنْ سَهْلٍ وَحْدَهُ الشرح: حديث سهل بن أبي حثمة ورافع بن خديج في قصة محيصة وحويصة، سيأتي شرحه في كتاب القسامة، وقوله: " فوداهم " هو للأكثر ويروى بالفاء بدل الواو، وقوله: " من قبله " بكسر القاف وفتح الموحدة على الصحيح. قوله: (قال الليث حدثني يحيى) هو ابن سعيد الأنصاري، وبشير بالموحدة والمعجمة مصغر هو أين يسار بتحتانية ثم مهملة خفيفة. وهذا التعليق وصله مسلم والترمذي والنسائي من حديث الليث به. قوله: (وقال ابن عيينة حدثنا يحيى) هو ابن سعيد أيضا، وهذا التعليق وصله مسلم والنسائي من حديث ابن عيينة. الحديث: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبِرُونِي بِشَجَرَةٍ مَثَلُهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَلَا تَحُتُّ وَرَقَهَا فَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ وَثَمَّ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَلَمَّا لَمْ يَتَكَلَّمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ النَّخْلَةُ فَلَمَّا خَرَجْتُ مَعَ أَبِي قُلْتُ يَا أَبَتَاهُ وَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَقُولَهَا لَوْ كُنْتَ قُلْتَهَا كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا قَالَ مَا مَنَعَنِي إِلَّا أَنِّي لَمْ أَرَكَ وَلَا أَبَا بَكْرٍ تَكَلَّمْتُمَا فَكَرِهْتُ الشرح: حديث ابن عمر " أخبروني بشجرة مثلها مثل المسلم " الحديث تقدم شرحه في كتاب العلم مستوفى، وكأنه أشار بإيراده إلى أن تقديم الكبير حيث يقع التساوي، أما لو كان عند الصغير ما ليس عند الكبير فلا يمنع من الكلام بحضرة الكبير، لأن عمر تأسف حيث لم يتكلم ولده مع أنه اعتذر له بكونه بحضوره وحضور أبي بكر ومع ذلك تأسف على كونه لم يتكلم. *3* وَقَوْلِهِ وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي كُلِّ لَغْوٍ يَخُوضُونَ الشرح: قوله: (باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء) . أما الشعر فهو في الأصل اسم لما دق ومنه " ليت شعري " ثم استعمل في الكلام المقفى الموزون قصدا، ويقال أصله بفتحتين يقال شعرت أصبت الشعر وشعرت بكذا علمت علما دقيقا كإصابة الشعر. وقال الراغب: قال بعض الكفار عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه شاعر، فقيل لما وقع في القرآن من الكلمات الموزونة والقوافي، وقيل: أرادوا أنه كاذب لأنه أكثر ما يأتي به الشاعر كذب، ومن ثم سموا الأدلة الكاذبة شعرا، وقيل في الشعر: أحسنه أكذبه، ويؤيد ذلك قوله تعالى: وأخرج ابن سعد بسند صحيح عن طاوس مرسلا، وأورده البزار موصولا عن ابن عباس دخل حديث بعضهم في بعض: إن أول من حدا الإبل عبد لمضر بن نزار بن معد بن عدنان كان في إبل لمضر فقصر، فضربه مضر على يده فأوجعه فقال: يا يداه يا يداه، وكان حسن الصوت فأسرعت الإبل لما سمعته في السير، فكان ذلك مبدأ الحداء. ونقل ابن عبد البر الاتفاق على إباحة الحداء، وفي كلام بعض الحنابلة إشعار بنقل خلافه فيه، ومانعه محجوج بالأحاديث الصحيحة، ويلتحق بالحداء هنا الحجيج المشتمل على التشوق إلى الحج بذكر الكعبة وغيرها من المشاهد، ونظيره ما يحرض أهل الجهاد على القتال، ومنه غناء المرأة لتسكين الولد في المهد. قوله: (وقوله تعالى: وأخرج البخاري في " الأدب المفرد " وأبو داود من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: (والشعراء يتبعهم الغاوون - إلى قوله - ما لا يفعلون) قال فنسخ من ذلك واستثنى فقال: وأخرج ابن أبي شيبة - من طريق مرسلة - قال: لما نزلت فقال اقرءوا ما بعدها وقال السهيلي: نزلت الآية في الثلاثة، وإنما وردت بالإبهام ليدخل معهم من اقتدى بهم، وذكر الثعلبي مع الثلاثة كعب بن زهير بغير إسناد، والله أعلم. قوله: (قال ابن عباس: في كل لغو يخوضون) وصله ابن أبي حاتم والطبري من طريق معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: وفي قوله: (يهيمون) قال: يخوضون. وقال غيره يهيمون أي يقولون في الممدوح والمذموم ما ليس فيه، فهم كالهائم على وجهه والهائم المخالف للقصد. قوله: (وما يكره منه) هو قسيم قوله: " ما يجوز"، والذي يتحصل من كلام العلماء في حد الشعر الجائز أنه إذا لم يكثر منه في المسجد، وخلا عن هجو، وعن الإغراق في المدح والكذب المحض. والتغزل بمعين لا يحل. وقد نقل ابن عبد البر الإجماع على جوازه إذا كان كذلك، واستدل بأحاديث الباب وغيرها وقال: ما أنشد بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم أو استنشده ولم ينكره. قلت: وقد جمع ابن سيد الناس شيخ شيوخنا مجلدا في أسماء من نقل عنه من الصحابة شيء من شعر متعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وقد ذكر في الباب خمسة أحاديث دالة على الجواز، وبعضها مفصل لما يكره مما لا يكره، وترجم في " الأدب المفرد " ما يكره من الشعر وأورد فيه حديث عائشة مرفوعا " إن أعظم الناس فرية الشاعر يهجو القبيلة بأسرها " وسنده حسن، وأخرجه ابن ماجه من هذا الوجه بلفظ " أعظم الناس فرية رجل هاجي رجلا فهجا القبيلة بأسرها " وصححه ابن حبان. وأخرج البخاري في " الأدب المفرد " عن عائشة أنها كانت تقول: الشعر منه حسن ومنه قبيح، خذ الحسن ودع القبيح ولقد رويت من شعر كعب بن مالك أشعارا منها القصيدة فيها أربعون بيتا، وسنده حسن. وأخرج أبو يعلي أوله من حديثها من وجه آخر مرفوعا، وأخرجه البخاري في " الأدب المفرد " أيضا من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا بلفظ " الشعر بمنزلة الكلام، فحسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام " وسنده ضعيف. وأخرجه الطبراني في الأوسط وقال: لا يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد. وقد اشتهر هذا الكلام عن الشافعي. واقتصر ابن بطال على نسبته إليه فقصر، وعاب القرطبي المفسر على جماعة من الشافعية الاقتصار على نسبة ذلك للشافعي وقد شاركهم في ذلك ابن بطال وهو مالكي. وأخرج الطبري من طريق ابن جريج قال: سألت عطاء عن الحداء والشعر والغناء فقال: لا بأس به ما لم يكن فحشا. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ أَخْبَرَهُ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ مِنْ الشِّعْرِ حِكْمَةً الشرح: قوله: (عن الزهري أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن) يعني ابن الحارث بن هشام المخزومي، وفي هذا الإسناد أربعة من التابعين قرشيون مدنيون في نسق، فالزهري من صغار التابعين وأبو بكر ومن فوقه من كبارهم؛ ولمروان وعبد الرحمن مزية إدراك النبي صلى الله عليه وسلم ولكنهما من حيث الرواية معدودان في التابعين، وقد تقدم قريبا أن لعبد الرحمن رؤية وأنه عد لذلك في الصحابة، وكذا ذكر بعضهم مروان في الصحابة لإدراكه، وقد تقدم ذلك في الشروط. وقد اختلف على الزهري في سنده: فالأكثر على ما قال شعيب. وقال معمر في المشهور عنه: " عن الزهري عن عروة " بدل أبي بكر موصولا، وأخرجه ابن أبي شيبة عن سفيان بن عيينة " عن الزهري عن عروة " مرسلا، ووافق رباح بن أبي زيد عن معمر الجماعة، وكذا قال هشام بن يوسف عن معمر، لكن قال عبد الله بن الأسود وكذا قال إبراهيم بن سعيد: عن الزهري، وحذف يزيد بن هارون عن إبراهيم بن سعد مروان من السند والصواب إثباته. قوله: (إن من الشعر حكمة) أي قولا صادقا مطابقا للحق. وقيل: أصل الحكمة المنع، فالمعنى إن من الشعر كلاما نافعا يمنع من السفه. وأخرج أبو داود من رواية صخر بن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن جده " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن من البيان سحرا، وإن من العلم جهلا، وإن من الشعر حكما، وإن من القول عيا. فقال صعصعة بن صوحان: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم أما قوله: " إن من البيان سحرا " فالرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق. وأما قوله: " وإن من العلم جهلا " فيكلف العالم إلى علمه ما لا يعلم فيجهل ذلك. وأما قوله: " إن من الشعر حكما " فهي هذه المواعظ والأمثال التي يتعظ بها الناس. وأما قوله: " إن من القول عيا " فعرضك كلامك على من لا يريده. وقال ابن التين: مفهومه أن بعض الشعر ليس كذلك، لأن " من " تبعيضية. ووقع في حديث ابن عباس عند البخاري في " الأدب المفرد " وأبي داود والترمذي وحسنه وابن ماجة بلفظ " إن من الشعر حكما " وكذا أخرجه ابن أبي شيبة من حديث ابن مسعود، وأخرجه أيضا من حديث بريدة مثله. وأخرج ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن عبيد بن عمير قال قال أبو بكر: ربما قال الشاعر الكلمة الحكيمة. وقال ابن بطال: ما كان في الشعر والرجز ذكر الله تعالى وتعظيم له ووحدانيته وإيثار طاعته والاستسلام له فهو حسن مرغب فيه، وهو المراد في الحديث بأنه حكمة، وما كان كذبا وفحشا فهو مذموم. قال الطبري: في هذا الحديث رد على من كره الشعر مطلقا واحتج بقول ابن مسعود " الشعر مزامير الشيطان " وعن مسروق أنه تمثل بأول بيت شعر ثم سكت، فقيل له فقال: أخاف أن أجد في صحيفتي شعرا، وعن أبي أمامة رفعه " أن إبليس لما أهبط إلى الأرض قال: رب اجعل لي قرآنا، قال قرآنك الشعر " ثم أجاب عن ذلك بأنها أخبار واهية، . وهو كذلك، فحديث أبي أمامة فيه علي بن يزيد الهاني وهو ضعيف، وعلى تقدير قوتها فهو محمول على الإفراط فيه والإكثار منه كما سيأتي تقريره بعد باب، ويدل على الجواز سائر أحاديث الباب. وأخرج البخاري في " الأدب المفرد " عن عمر بن الشريد عن أبيه قال: " استنشدني النبي صلى الله عليه وسلم من شعر أمية بن أبي الصلت فأنشدته حتى أنشدته مائة قافية". وعن مطرف قال: صحبت عمران بن حصين من الكوفة إلى البصرة فقل منزل نزله إلا وهو ينشدني شعرا. وأسند الطبري عن جماعة من كبار الصحابة ومن كبار التابعين أنهم قالوا الشعر وأنشدوه واستنشدوه. وأخرج البخاري في " الأدب المفرد " عن خالد بن كيسان قال: كنت عند ابن عمر فوقف عليه إياس بن خيثمة فقال: ألا أنشدك من شعري؟ قال: بلى ولكن لا تنشدني إلا حسنا. وأخرج ابن أبي شيبة بسند حسن عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: " لم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منحرفين ولا متماوتين، وكانوا يتناشدون الأشعار في مجالسهم ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحدهم على شيء من دينه دارت حماليق عينيه " ومن طريق عبد الرحمن بن أبي بكرة قال: " كنت أجالس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي في المسجد فيتناشدون الأشعار ويذكرون حديث الجاهلية " وأخرج أحمد وابن أبي شيبة والترمذي وصححه من حديث جابر بن سمرة قال: " كان أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم يتذاكرون الشعر وحديث الجاهلية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينهاهم. وربما يتبسم". الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ سَمِعْتُ جُنْدَباً يَقُولُ بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي إِذْ أَصَابَهُ حَجَرٌ فَعَثَرَ فَدَمِيَتْ إِصْبَعُهُ فَقَالَ هَلْ أَنْتِ إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيتِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ الشرح: قوله: (سفيان) هو الثوري. قوله: (سمعت جندبا) في رواية أبي عوانة عن الأسود الماضية في أوائل الجهاد: " جندب بن سفيان البجلي". قوله: (بينما النبي صلى الله عليه وسلم يمشي) في رواية أبي عوانة " كان في بعض المشاهد " وفي رواية شعبة عن الأسود " خرج إلى الصلاة " وأخرج الطيالسي وأحمد في رواية ابن عيينة عن الأسود عن جندب " كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار". قوله: (فعثر) بالعين المهملة والثاء المثلثة. قوله: (فقال: هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت) هذان قسمان من رجز والتاء في آخرهما مكسورة على وفق الشعر، وجزم الكرماني بأنهما في الحديث بالسكون وفيه نظر، وزعم غيره أن النبي صلى الله عليه وسلم تعمد إسكانهما ليخرج القسمين عن الشعر، وهو مردود فإنه يصير من ضرب آخر من الشعر وهو من ضروب البحر الملقب الكامل. وفي الثاني زحاف جائز. قال عياض: وقد غفل بعض الناس فروى دميت ولقيت بغير مد فخالف الرواية ليسلم من الإشكال فلم يصب، وقد اختلف هل قاله النبي صلى الله عليه وسلم متمثلا أو قاله من قبل نفسه غير قاصد لإنشائه فخرج موزونا، وبالأول جزم الطبري وغيره، ويؤيده أن ابن أبي الدنيا في " محاسبة النفس " أوردهما لعبد الله بن رواحة فذكر أن جعفر بن أبي طالب لما قتل في غزوة مؤتة بعد أن قتل زيد بن حارثة أخذ اللواء عبد الله بن رواحة فقاتل فأصيب إصبعه، فارتجز وجعل يقول هذين القسمين وزاد: يا نفس إن لا تقتلي تموتي هذي حياض الموت قد صليت وما تمنيت فقد لقيت إن تفعلي فعلهما هديت وهكذا جزم ابن التين بأنهما من شعر ابن رواحة. وذكر الواقدي أن الوليد بن المغيرة كان رافق أبا بصير في صلح الحديبية على ساحل البحر، ثم أن الوليد رجع إلى المدينة فعثر بالحرة فانقطعت إصبعه فقال هذين القسمين. وأخرجه الطبراني من وجه آخر موصول بسند ضعيف. وقال ابن هشام في زيادات السيرة " حدثني من أثق به أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من لي بعباس بن أبي ربيعة، فقال الوليد بن الوليد أنا " فذكر قصة فيها " فعثر فدميت إصبعه فقالهما " وهذا إن كان محفوظا احتمل أن يكون ابن رواحة ضمنهما شعره وزاد عليهما، فإن قصة الحديبية قبل قصة مؤتة، وقد تقدم نحو هذا الاحتمال في أوائل غزوة خيبر في الرجز المنسوب لعامر بن الأكوع " اللهم لولا أنت ما اهتدينا " وأنه نسب في رواية أخرى لابن رواحة. وقد اختلف في جواز تمثل النبي صلى الله عليه وسلم بشيء من الشعر وإنشاده حاكيا عن غيره فالصحيح جوازه. وقد أخرج البخاري في " الأدب المفرد " والترمذي وصححه والنسائي من رواية المقدام بن شريح عن أبيه " قلت لعائشة: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر؟ قالت: كان يتمثل من شعر ابن رواحة: ويأتيك بالأخبار من لم تزود " وأخرج ابن أبي شيبة نحوه من حديث ابن عباس وأخرج أيضا من مرسل أبي جعفر الخطمي قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبني المسجد وعبد الله بن رواحة يقول. أفلح من يعالج المساجدا. فيقولها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول ابن رواحة: يتلو القرآن قائما وقاعدا. فيقولها رسول الله صلى الله عليه وسلم " وأما ما أخرجه الخطيب في التاريخ عن عائشة: تفاءل بما تهوى تكن فلقلما يقال لشيء كان إلا تحققا قال: وإنما لم يعربه لئلا يكون شعرا، فهو شيء لا يصح. ومما يدل على وهائه التعليل المذكور، والحديث الثالث في الباب يؤيد ذلك، وأنه صلى الله عليه وسلم كان يجوز له أن يحكي الشعر عن ناظمه. وقد تقدم في غزوة حنين قوله صلى الله عليه وسلم: " أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب " وأنه دل على جواز وقوع الكلام منه منظوما من غير قصد إلى ذلك ولا يسمى ذلك شعرا. وقد وقع الكثير من ذلك في القرآن العظيم، لكن غالبها أشطار أبيات والقليل منها وقع وزن بيت تام، فمن التام قوله تعالى: (الحامدون السائحون الراكعون الساجدون - أوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم - مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات - فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين - نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم - لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون - قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم - وجفان كالجوابي وقدور راسيات - واتقون يا أولي الألباب - إن هذا لرزقنا ما له من نفاد - تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان - فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله - ومن الليل فسبحه وأدبار النجوم. وكذلك السجود - والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم - إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها - يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك - وأزواج مطهرة ورضوان من الله - ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين - ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين - ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا - ويأكلون التراث أكلا لما ويحبون المال حبا جما) والواو في كل منهما وإن كانت زائدة على الوزن لكنه يجوز في النظم ويسمى الخزم بالزاي بعد الخاء المعجمة. وأما الأشطار فكثيرة جدا فمنها (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر - ليقضي الله أمرا كان مفعولا - فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم - في أمة قد خلت من قبلها أمم - فذلكن الذي لمتنني فيه - فانبذ إليهم على سواء - ادخلوها بسلام آمنين - إنه كان وعده مفعولا - حسدا من عند أنفسهم - ألا بعدا لعاد قوم هود - ويعلم ما جرحتم بالنهار - وتراهم يعرضون عليها - وكفى الله المؤمنين القتال - والله أركسهم بما كسبوا - حتى يخوضوا في حديث غيره - قل هو الرحمن آمنا به - ألا إلى الله تصير الأمور - نصر من الله وفتح قريب - ذلك تقدير العزيز العليم - نقذف بالحق على الباطل - اليوم أكملت لكم دينكم - يا أيها الناس اتقوا ربكم - لئن شكرتم لأزيدنكم - قتل الإنسان ما أكفره - ثاني اثنين إذ هما في النار - قد علمنا ما تنقص الأرض منهم - إن قارون كان من قوم موسى - إن ربي بكيدهن عليم - وينصرك الله نصرا عزيزا - خلق الإنسان من علق - وآخر دعواهم أن الحمد لله - وأحلوا قومهم دار البوار - ولا تقتلوا النفس التي حرم الله - التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون - قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم - كلما أضاء لهم - ونحشر المجرمين يومئذ - يا أيها الإنسان إنك كادح - يا أيها الإنسان ما غرك - وهب لنا من لدنك رحمة - وينصرك الله نصرا عزيزا - والطير محشورة كل له أواب - وعندهم قاصرات الطرف أتراب - فإن عدنا فإنا ظالمون - زلزلة الساعة شيء عظيم - أنطعم من لو يشاء الله أطعمه - ثمرات النخيل والأعناب - ذلك الكتاب لا ريب فيه) ومن التام أيضا (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس. ونزلناه تنزيلا) وإذا انتهى إلى " الناس " تم أيضا، وأيضا (لتقرأه على الناس ونزلناه تنزيلا) وقيل في الجواب عن الحديث: إن وقوع البيت الواحد من الفصيح لا يسمى شعرا، ولا يسمى قائله شاعرا. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيدٍ أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ وَكَادَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ أَنْ يُسْلِمَ الشرح: حديث أبي هريرة " أصدق كلمة قالها الشاعر " تقدم شرحه في أيام الجاهلية، وقوله: " عن أبي سلمة عن أبي هريرة " وقع في رواية زائدة بن قدامة " عن عبد الملك بن عمير عن موسى بن طلحة عن أبي هريرة " به وزاد بعد قوله كلمة لبيد: ثم تمثل أوله وترك آخره. وقد أخرج مسلم من وجه آخر عن زائدة مثل رواية سفيان ومن تابعه وهو المحفوظ. الحديث: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى خَيْبَرَ فَسِرْنَا لَيْلاً فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ لِعَامِرِ بْنِ الْأَكْوَعِ أَلَا تُسْمِعُنَا مِنْ هُنَيْهَاتِكَ قَالَ وَكَانَ عَامِرٌ رَجُلاً شَاعِراً فَنَزَلَ يَحْدُو بِالْقَوْمِ يَقُولُ اللَّهُمَّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا فَاغْفِرْ فِدَاءٌ لَكَ مَا اقْتَفَيْنَا وَثَبِّتْ الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا وَأَلْقِيَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا إِنَّا إِذَا صِيحَ بِنَا أَتَيْنَا وَبِالصِّيَاحِ عَوَّلُوا عَلَيْنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ هَذَا السَّائِقُ قَالُوا عَامِرُ بْنُ الْأَكْوَعِ فَقَالَ يَرْحَمُهُ اللَّهُ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ وَجَبَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَوْلَا أَمْتَعْتَنَا بِهِ قَالَ فَأَتَيْنَا خَيْبَرَ فَحَاصَرْنَاهُمْ حَتَّى أَصَابَتْنَا مَخْمَصَةٌ شَدِيدَةٌ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ فَتَحَهَا عَلَيْهِمْ فَلَمَّا أَمْسَى النَّاسُ الْيَوْمَ الَّذِي فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ أَوْقَدُوا نِيرَاناً كَثِيرَةً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا هَذِهِ النِّيرَانُ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ تُوقِدُونَ قَالُوا عَلَى لَحْمٍ قَالَ عَلَى أَيِّ لَحْمٍ قَالُوا عَلَى لَحْمِ حُمُرٍ إِنْسِيَّةٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْرِقُوهَا وَاكْسِرُوهَا فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْ نُهَرِيقُهَا وَنَغْسِلُهَا قَالَ أَوْ ذَاكَ فَلَمَّا تَصَافَّ الْقَوْمُ كَانَ سَيْفُ عَامِرٍ فِيهِ قِصَرٌ فَتَنَاوَلَ بِهِ يَهُودِيّاً لِيَضْرِبَهُ وَيَرْجِعُ ذُبَابُ سَيْفِهِ فَأَصَابَ رُكْبَةَ عَامِرٍ فَمَاتَ مِنْهُ فَلَمَّا قَفَلُوا قَالَ سَلَمَةُ رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاحِباً فَقَالَ لِي مَا لَكَ فَقُلْتُ فِدًى لَكَ أَبِي وَأُمِّي زَعَمُوا أَنَّ عَامِراً حَبِطَ عَمَلُهُ قَالَ مَنْ قَالَهُ قُلْتُ قَالَهُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ وَأُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَبَ مَنْ قَالَهُ إِنَّ لَهُ لَأَجْرَيْنِ وَجَمَعَ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ إِنَّهُ لَجَاهِدٌ مُجَاهِدٌ قَلَّ عَرَبِيٌّ نَشَأَ بِهَا مِثْلَهُ الشرح: حديث سلمة بن الأكوع في قصة عامر بن الأكوع، تقدم شرحه مستوفى في غزوة خيبر من كتاب المغازي، وقوله فيه: " وكان عامر رجلا شاعرا فنزل يحدو بالقوم " يؤخذ منه جميع الترجمة لاشتماله على الشعر والرجز والحداء ويؤخذ منه الرجز من جملة الشعر، وقوله: " اللهم لولا أنت ما اهتدينا " قال ابن التين: هذا ليس بشعر ولا رجز لأنه ليس بموزون، وليس كما قال بل هو رجز موزون، وإنما زيد في أوله سبب خفيف ويسمى الخزم بالمعجمتين وقوله: " فاغفر فداء لك ما اقتفينا " أما فداء فهو بكسر الفاء والمدمنون، ومنهم من يقوله بالقصر، وشرط اتصاله بحرف الجر كالذي هنا، قاله ابن التين. وقال المازري لا يقال لله فداء لك لأنها كلمة تستعمل عند توقع مكروه لشخص فيختار شخص آخر أن يحل به دون ذلك الآخر ويفديه، فهو إما مجاز عن الرضا كأنه قال: نفسي مبذولة لرضاك أو هذه الكلمة وقعت خطابا لسامع الكلام، وقد تقدم له توجيه آخر في غزوة خيبر. وقال ابن بطال: معناه اغفر لنا ما ارتكبناه من الذنوب، وفداء لك دعاء أي افدنا من عقابك على ما اقترفنا من ذنوبنا، كأنه قال: أغفر لنا وافدنا منك فداء لك، أي من عندك فلا تعاقبنا به. وحاصله أنه جعل اللام للتبيين مثل هيت لك، واستدل بجواز الحداء على جواز غناء الركبان المسمى بالنصب، وهو ضرب من النشيد بصوت فيه تمطيط، وأفرط قوم فاستدلوا به على جواز الغناء مطلقا بالألحان التي تشتمل عليها الموسيقى، وفيه نظر. وقال الماوردي: اختلف فيه، فأباحه قوم مطلقا، ومنعه قوم مطلقا، وكرهه مالك والشافعي في أصح القولين، ونقل عن أبي حنيفة المنع، وكذا أكثر الحنابلة. ونقل ابن طاهر في " كتاب السماع " الجواز عن كثير من الصحابة، لكن لم يثبت من ذلك شيء إلا في النصب المشار إليه أولا. قال ابن عبد البر: الغناء الممنوع ما فيه تمطيط وإفساد لوزن الشعر طلبا للطرب وخروجا من مذاهب العرب. وإنما وردت الرخصة في الضرب الأول دون ألحان العجم. وقال الماوردي: هو الذي لم يزل أهل الحجاز يرخصون فيه من غير نكير إلا في حالتين: أن يكثر منه جدا وأن يصحبه ما يمنعه منه. واحتج من أباحه بأن فيه ترويحا للنفس، فإن فعله ليقوى على الطاعة فهو مطيع أو على المعصية فهو عاص، وإلا فهو مثل التنزه في البستان والتفرج على المارة. وأطنب الغزالي في الاستدلال، ومحصله أن الحداء بالرجز والشعر لم يزل يفعل في الحضرة النبوية، وربما التمس ذلك، وليس هو إلا أشعار توزن بأصوات طيبة وألحان موزونة، وكذلك الغناء أشعار موزونة تؤدى بأصوات مستلذة وألحان موزونة. وقد تقدم له بوجه آخر في غزوة خيبر والحليمي ما تعين طريقا إلى الدواء أو شهد به طبيب عدل عارف. الحديث: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ وَمَعَهُنَّ أُمُّ سُلَيْمٍ فَقَالَ وَيْحَكَ يَا أَنْجَشَةُ رُوَيْدَكَ سَوْقاً بِالْقَوَارِيرِ قَالَ أَبُو قِلَابَةَ فَتَكَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَلِمَةٍ لَوْ تَكَلَّمَ بِهَا بَعْضُكُمْ لَعِبْتُمُوهَا عَلَيْهِ قَوْلُهُ سَوْقَكَ بِالْقَوَارِيرِ الشرح: قوله: (إسماعيل) هو ابن علية. قوله: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم على بعض نسائه) يأتي في " باب المعاريض " في رواية حماد بن زيد عن أيوب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في سفر. وفي رواية شعبة عن ثابت عن أنس " كان في منزله فحدي الحادي " وسيأتي ذلك في " باب المعاريض " وأخرجه النسائي والإسماعيلي من طريق شعبة بلفظ " وكان معهم سائق وحاد " ولأبي داود الطيالسي عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس " كان أنجشة يحدو بالنساء، وكان البراء بن مالك يحدو بالرجال " وأخرجه أبو عوانة من رواية عفان عن حماد. وفي رواية قتادة عن أنس " كان للنبي صلى الله عليه وسلم حاد يقال له أنجشة وكان حسن الصوت " وسيأتي في " باب المعاريض " وفي رواية وهيب " وأنجشة غلام النبي صلى الله عليه وسلم يسوق بهن " وفي رواية حميد عن أنس، فاشتد بهن في السياق " أخرجها أحمد عن ابن عدي عنه. وفي رواية حماد بن سلمة عن ثابت " فإذا أعنقت الإبل " وهي بعين مهملة ونون وقاف أي أسرعت وزنه ومعناه، والعنق بفتحتين قد تقدم بيانه في كتاب الحج. قوله: (ومعهن أم سليم) في رواية حميد عن أنس عند الحارث " وكان يحدو بأمهات المؤمنين ونسائهم " وفي رواية وهيب عن أيوب كما سيأتي بعد عشرين بابا " كانت أم سليم في الثقل " وفي رواية سليمان التيمي عن أنس عند مسلم " كانت أم سليم مع نساء النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه من طريق يزيد بن زريع عنه، وأخرجه النسائي من طريق زهير والرامهرمزي في " الأمثال " من طريق حماد بن مسعدة كلاهما عن سليمان فقال: " عن أنس عن أم سليم " جعله من مسند أم سليم، والأول هو المحفوظ، وحكى عياض أن في رواية السمرقندي في مسلم " أم سلمة " بدل أم سليم قال وقوله في الرواية الأخرى " مع نساء النبي صلى الله عليه وسلم " يقوي أنها ليست من نسائه. قلت: وتضافر الروايات على أنها أم سليم يقضي بأن قوله أم سلمة تصحيف. قوله: (فقال ويحك يا أنجشة) في رواية حماد " كان في سفر له وكان غلام يحدو بهن يقال له أنجشة " وسيأتي في " باب المعاريض " وفي رواية مسلم من هذا الوجه " كان في بعض أسفاره وغلام أسود " وفي رواية للنسائي عن قتيبة عن حماد " وغلام له يقال له أنجشة " وهو بفتح الهمز وسكون النون وفتح الجيم بعدها شين معجمة ثم هاء تأنيث، ووقع في رواية وهيب " يا أنجش " على الترخيم، قال البلاذري: كان أنجشة حبشيا يكني أبا مارية. وأخرج الطبراني من حديث واثلة أنه كان ممن نفاهم النبي صلى الله عليه وسلم من المخنثين. قوله: (رويدك) كذا للأكثر وفي رواية سليمان التيمي " رويدا " وفي رواية شعبة " أرفق " ووقع في رواية حميد " رويدك أرفق " جمع بينهما رويناه في " جزء الأنصاري " عن حميد. وأخرجه الحارث عن عبد الله بن بكر عن حميد فقال: " كذلك سوقك " وهي بمعنى كفاك. قال عياض: قوله رويدا منصوب على أنه صفة لمحذوف دل عليه اللفظ أي سق سوقا رويدا، أو احد حدوا رويدا. أو على المصدر أي أورد رويدا مثل أرفق رفقا. أو على الحال أي سر رويدا، أو رويدك منصوب على الإغراء، أو مفعول بفعل مضمر أي الزم رفقك، أو على المصدر أي أرود رويدك. وقال الراغب: رويدا من أرود يرود كأمهل يمهل وزنه ومعناه، وهو من الرود بفتح الراء وسكون ثانيه وهو التردد في طلب الشيء برفق راد وارتاد، والرائد طالب الكلأ، ورادت المرأة ترود إذا مشت على هينتها. وقال الرامهرمزي: رويدا تصغير رود وهو مصدر فعل الرائد، وهو المبعوث في طلب الشيء، ولم يستعمل في معنى المهملة إلا مصغرا، قال وذكر صاحب " العين " أنه إذا أريد به معنى الترويد في الوعيد لم ينون. وقال السهيلي: قوله رويدا أي أرفق، جاء بلفظ التصغير لأن المراد التقليل أي أرفق قليلا، وقد يكون من تصغير المرخم وهو أن يصغر الاسم بعد حرف الزوائد كما قالوا في أسود سويد فكذا في أرود رويد. قوله: (سوقك) كذا للأكثر وفي رواية حميد " سيرك " وهو بالنصب على نزع الخافض أي أرفق في سوقك، أو سقهن كسوقك. وقال القرطبي في " المفهم ": رويدا أي أرفق، وسوقك مفعول به. ووقع في رواية مسلم " سوقا " وكذا للإسماعيلي في رواية شعبة، وهو منصوب على الإغراء بقوله أرفق سوقا، أو على المصدر أي سق سوقا. وقرأت بخط ابن الصائغ المتأخر: رويدك إما مصدر والكاف في محل خفض، وإما اسم فعل والكاف حرف خطاب، وسوقك بالنصب على الوجهين والمراد به حدوك إطلاقا لاسم المسبب على السبب. وقال ابن مالك: رويدك اسم فعل بمعني أرود أي أمهل، والكاف المتصلة به حرف خطاب، وفتحة داله بنائية. ولك أن تجعل رويدك مصدرا مضافا إلى الكاف ناصبها سوقك وفتحة دالة على هذا إعرابية. وقال أبو البقاء: الوجه النصب برويدا والتقدير أمهل سوقك، والكاف حرف خطاب وليست اسما، ورويدا يتعدى إلى مفعول واحد. قوله: (بالقوارير) في رواية هشام عن قتادة " رويدك سوقك ولا تكسر القوارير " وزاد حماد في روايته عن أيوب قال أبو قلابة: يعني النساء، ففي رواية همام عن قتادة " ولا تكسر القوارير " قال قتادة: يعني ضعفة النساء والقوارير جمع قارورة وهي الزجاجة سميت بذلك لاستقرار الشراب فيها. وقال الرامهرمزي: كني عن النساء بالقوارير لرقتهن وضعفهن عن الحركة، والنساء يشبهن بالقوارير في الرقة واللطافة وضعف البنية، وقيل: المعنى سقهن كسوقك القوارير لو كانت محمولة على الإبل. وقال غيره: شبههن بالقوارير لسرعة انقلابهن عن الرضا، وقلة دوامهن على الوفاء، كالقوارير يسرع إليها الكسر ولا تقبل الجبر، وقد استعملت الشعراء ذلك، قال بشار: ارفق بعمرو إذا حركت نسبته فإنه عربي من قوارير قال أبو قلابة: فتكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة لو تكلم بها بعضكم لعبتموها عليه: " سوقك بالقوارير " قال الداودي: هذا قاله أبو قلابة لأهل العراق لما كان عندهم من التكلف ومعارضة الحق بالباطل. وقال الكرماني: لعله نظر إلى أن شرط الاستعارة أن يكون وجه الشبه جليا، وليس بين القارورة والمرأة وجه للتشبيه من حيث ذاتهما ظاهر، لكن الحق أنه كلام في غاية الحسن والسلامة عن العيب؛ ولا يلزم في الاستعارة أن يكون جلاء وجه الشبه من حيث ذاتهما، بل يكفي الجلاء الحاصل من القرائن الحاصلة، وهو هنا كذلك. قال: ويحتمل أن يكون قصد أبي قلابة أن هذه الاستعارة من مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم في البلاغة، ولو صدرت من غيره ممن لا بلاغة له لعبتموها. قال وهذا هو اللائق بمنصب أبي قلابة. قلت: وليس ما قاله الداودي بعيدا ولكن المراد من كان يتنطع في العبارة ويتجنب الألفاظ التي تشتمل على شيء من الهزل. وقريب من ذلك قول شداد بن أوس الصحابي لغلامه: ائتنا بسفرة نعبث بها، فأنكرت عليه، أخرجه أحمد والطبراني. قال الخطابي: كان أنجشة أسود وكان في سوقه عنف، فأمره أن يرفق بالمطايا. وقيل: كان حسن الصوت بالحداء فكره أن تسمع النساء الحداء فإن حسن الصوت يحرك من النفوس، فشبه ضعف عزائمهن وسرعة تأثير الصوت فيهن بالقوارير في سرعة الكسر إليها. وجزم ابن بطال بالأول فقال: القوارير كناية عن النساء اللاتي كن على الإبل التي تساق حينئذ، فأمر الحادي بالرفق في الحداء لأنه يحنث الإبل حتى تسرع فإذا أسرعت لم يؤمن على النساء السقوط، وإذا مشت رويدا أمن على النساء السقوط، قال: وهذا من الاستعارة البديعة، لأن القوارير أسرع شيء تكسيرا، فأفادت الكناية من الحض على الرفق بالنساء في السير ما لم تفده الحقيقة لو قال أرفق بالنساء. وقال الطيبي: هي استعارة لأن المشبه به غير مذكور، والقرينة حالية لا مقالية، ولفظ الكسر ترشيح لها. وجزم أبو عبيد الهروي بالثاني وقال: شبه النساء بالقوارير لضعف عزائمهن، والقوارير يسرع إليها الكسر، فخشي من سماعهن النشيد الذي يحدو به أن يقع بقلوبهن منه، فأمره بالكف، فشبه عزائمهن بسرعة تأثير الصوت فيهن بالقوارير في إسراع الكسر إليها. ورجح عياض هذا الثاني فقال هذا أشبه بمساق الكلام، وهو الذي يدل عليه كلام أبي قلابة، وإلا فلو عبر عن السقوط بالكسر لم يعبه أحد. وجوز القرطبي في " المفهم " الأمرين فقال: شبههن بالقوارير لسرعة تأثرهن وعدم تجلدهن، فخاف عليهن من حث السير بسرعة السقوط أو التألم من كثرة الحركة والاضطراب الناشئ عن السرعة، أو خاف عليهن الفتنة من سماع النشيد. قلت: والراجح عند البخاري الثاني، ولذلك أدخل هذا الحديث في " باب المعاريض"، ولو أريد المعنى الأول لم يكن في القوارير تعريض. الشرح: قوله: (باب هجاء المشركين) الهجاء والهجو بمعني، ويقال هجوته ولا تقل هجيته. وأشار بهذه الترجمة إلى أن بعض الشعر قد يكون مستحبا، وقد أخرج أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن حبان من حديث أنس رفعه " جاهدوا المشركين بألسنتكم " وتقدم في مناقب قريش الإشارة إلى حديث كعب بن مالك وغيره في ذلك، وللطبراني من حديث عمار بن ياسر " لما هجانا المشركون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولوا لهم كما يقولون لكم " فإن كنا لنعلمه إماء أهل المدينة. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ اسْتَأْذَنَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هِجَاءِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَيْفَ بِنَسَبِي فَقَالَ حَسَّانُ لَأَسُلَّنَّكَ مِنْهُمْ كَمَا تُسَلُّ الشَّعَرَةُ مِنْ الْعَجِينِ وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ ذَهَبْتُ أَسُبُّ حَسَّانَ عِنْدَ عَائِشَةَ فَقَالَتْ لَا تَسُبُّهُ فَإِنَّهُ كَانَ يُنَافِحُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشرح: قوله: (حدثنا محمد) هو ابن سلام نسبه أبو علي بن السكن وصرح به البخاري في " الأدب المفرد " وعبدة هو ابن سليمان، وتقدم شرح حديث عائشة هذا في مناقب قريش. وقوله استأذن حسان، ووقع في طريق مرسلة بيان ذلك وسببه: فروى ابن وهب في جامعه وعبد الرزاق في مصنفه من طريق محمد بن سيرين قال " هجا رهط من المشركين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال المهاجرون: يا رسول الله ألا تأمر عليا فيهجو هؤلاء القوم؟ فقال: إن القوم الذين نصروا بأيديهم أحق أن ينصروا بألسنتهم. فقالت الأنصار: أرادنا والله. فأرسلوا إلى حسان، فأقبل فقال: يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما أحب أن لي بمقولي ما بين صنعاء وبصرى، فقال: أنت لها، فقال لا علم لي بقريش، فقال لأبي بكر أخبره عنهم ونقب له في مثالبهم. وقد تقدم بعض هذا موصولا من حديث عائشة وهو عند مسلم، وقوله "لأسلنك " أي لأخلص نسبك من هجومهم بحيث لا يبقى شيء من نسبك فيناله الهجو، كالشعرة إذا انسلت لا يبقى عليها شيء من العجين. وفي الحديث جواز سب المشرك جوابا عن سبه للمسلمين، ولا يعارض ذلك مطلق النهي عن سب المشركين لئلا يسبوا المسلمين لأنه محمول على البداءة به، لا على من أجاب منتصرا. وقوله في الحديث الثاني " ينافح " بفاء ومهملة أي يخاصم بالمدافعة، والمنافح المدافع، تقول نافحت عن فلان أي دافعت عنه. الحديث: حَدَّثَنَا أَصْبَغُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ الْهَيْثَمَ بْنَ أَبِي سِنَانٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ فِي قَصَصِهِ يَذْكُرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ أَخاً لَكُمْ لَا يَقُولُ الرَّفَثَ يَعْنِي بِذَاكَ ابْنَ رَوَاحَةَ قَالَ وَفِينَا رَسُولُ اللَّهِ يَتْلُو كِتَابَهُ إِذَا انْشَقَّ مَعْرُوفٌ مِنْ الْفَجْرِ سَاطِعُ أَرَانَا الْهُدَى بَعْدَ الْعَمَى فَقُلُوبُنَا بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ وَاقِعُ يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ إِذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالْكَافِرِينَ الْمَضَاجِعُ تَابَعَهُ عُقَيْلٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ الزُّبَيْدِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ وَالْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الشرح: حديث أبي هريرة في شعر عبد الله بن رواحة، وقد تقدم شرحه في قيام الليل في أواخر كتاب الصلاة، وكذا بيان متابعة عقيل ومن وصلها ورواية الزبيدي ومن وصلها. قال ابن بطال: فيه أن الشعر إذا اشتمل على ذكر الله والأعمال الصالحة كان حسنا ولم يدخل فيما ورد فيه الذم من الشعر. قال الكرماني: في البيت الأول إشارة إلى علمه، وفي الثالث إلى عمله، وفي الثاني إلى تكميله غيره صلى الله عليه وسلم فهو كامل مكمل. (تنبيه) : وقع للجميع في البيت الثالث " إذا استثقلت بالكافرين المضاجع " إلا الكشميهني فقال " بالمشركين " واستثقلت بالمثلثة والقاف من الثقل. وزعم عياض أنه وقع في رواية أبي ذر " استقلت " بمثناة فقط وتشديد اللام قال: وهو فاسد الرواية والنظم والمعنى. قلت: وروايتنا من طريق أبي ذر متقنة وهي كالجادة. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ ح و حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ سَمِعَ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيَّ يَسْتَشْهِدُ أَبَا هُرَيْرَةَ فَيَقُولُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ نَشَدْتُكَ بِاللَّهِ هَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَا حَسَّانُ أَجِبْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَعَمْ الشرح: قوله: (وحدثنا إسماعيل) هو ابن أبي أويس، وأخوه أبو بكر واسمه عبد الحميد، وسليمان هو ابن بلال، ومحمد بن أبي عتيق هو محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وأبو عتيق كنية جده محمد. وقد تقدمت رواية شعيب مفردة في " باب الشعر في المسجد " في أوائل الصلاة وقرنها هنا برواية ابن أبي عتيق ولفظهما واحد، إلا أنه قال هناك " أنشدك الله هل سمعت " وقال هنا " نشدتك الله " وفي رواية الكشميهني " نشدتك بالله يا أبا هريرة " والباقي سواء. وقد تقدم بيان الاختلاف على الزهري في شيخه في هذا الحديث هناك، وتوجيه الجمع، والإشارة إلى شرح الحديث، وقوله "هل سمعت " وقال في آخره " نعم " يستفاد منه مشروعية تحمل الحديث بهذه الصيغة، وعد المزي هذا الحديث في " الأطراف " من مسند حسان وهو صريح في كونه من مسند أبي هريرة، ويحتمل أن يكون من مسند حسان. الحديث: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِحَسَّانَ اهْجُهُمْ أَوْ قَالَ هَاجِهِمْ وَجِبْرِيلُ مَعَكَ الشرح: قوله: (عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحسان) هكذا رواه أكثر أصحاب شعبة فقال فيه " عن البراء عن حسان " جعله من مسند حسان أخرجه النسائي، وقد أوردت هذا في الملائكة من بدء الخلق معزوا إلى الترمذي، وهو سهو كأن سببه التباس الرقم، فإنه للترمذي ت وللنسائي ن وهما يلتبسان، وقد تقدم بيان الوقت الذي وقع ذلك فيه لحسان في المغازي في غزوة بني قريظة. *3* الشرح: قوله: (باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر حتى يصده عن ذكر الله والعلم والقرآن) هو في هذا الحمل متابع لأبي عبيد كما سأذكره، ووجهه أن الذم كان للامتلاء وهو الذي لا بقية لغيره معه دل على أن ما دون ذلك لا يدخله الذم. الحديث: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا حَنْظَلَةُ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحاً خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْراً الشرح: حديث " لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا " من حديث ابن عمر ومن حديث أبي هريرة. زاد أبو ذر في روايته عن الكشميهني في حديث أبي هريرة " حتى يريه " وهذه الزيادة ثابتة في " الأدب المفرد " عن الشيخ الذي أخرجه عنه هنا، وكذلك رواية النسفي، ونسبها بعضهم للأصيلي، ولسائر رواة الصحيح " قيحا يريه " بإسقاط حتى، وأخرجه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة وأبو عوانة وابن حبان من طرق عن الأعمش في أكثرها " حتى يريه " ووقع عند الطبراني من وجه آخر عن سالم عن ابن عمر بلفظ " حتى يريه " أيضا. قال ابن الجوزي: وقع في حديث سعد عند مسلم " حتى يريه " وفي حديث أبي هريرة عند البخاري بإسقاط " حتى " فعلى ثبوتها يقرأ " يريه " بالنصب وعلى حذفها بالرفع، قال: ورأيت جماعة من المبتدئين يقرءونها بالنصب مع إسقاط حتى جريا على المألوف، وهو غلط إذ ليس هنا ما ينصب. وذكر أن ابن الخشاب نبه على ذلك. ووجه بعضهم النصب على بدل الفعل من الفعل وإجراء إعراب يمتلئ على يريه، ووقع في حديث عوف بن مالك عند الطحاوي والطبراني " لأن يمتلئ جوف أحدكم من عانته إلى لهاته قيحا يتخضخض خير له من أن يمتلئ شعرا " وسنده حسن. ووقع في حديث أبي سعيد عند مسلم لهذا الحديث سبب ولفظه " بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج إذ عرض لنا شاعر ينشد فقال: أمسكوا الشيطان، لأن يمتلئ " فذكره. ويريه بفتح الياء آخر الحروف بعدها راء ثم ياء أخرى، قال الأصمعي: هو من الوري بوزن الرمي يقال منه رجل موري غير مهموز وهو أن يوري جوفه وأنشد: قالت له وريا إذا تنحنحا تدعو عليه بذلك. وقال أبو عبيد: الوري هو أن يأكل القيح جوفه. وحكى ابن التين فيه الفتح بوزن الفرى وهو قول الفراء. وقال ثعلب: هو بالسكون المصدر، وبالفتح الاسم. وقيل: معنى قوله " حتى يريه " أي يصيب رئته، وتعقب بأن الرئة مهموزة فإذا بنيت منه فعلا قلت رأه يرأه فهو مرئي انتهى، ولا يلزم من كون أصلها مهموزا أن لا تستعمل مسهلة، ويقرب ذلك أن الرئة إذا امتلأت قيحا يحصل الهلاك، وأما قوله " جوف أحدكم " فقال ابن أبي جمرة يحتمل ظاهره أن يكون المراد جوفه كله وما فيه من القلب وغيره، ويحتمل أن يريد به القلب خاصة وهو الأظهر لأن أهل الطب يزعمون أن القيح إذا وصل إلى القلب شيء منه وإن كان يسيرا فإن صاحبه يموت لا محالة، بخلاف غير القلب مما في الجوف من الكبد والرئة. قلت: ويقوي الاحتمال الأول رواية عوف بن مالك " لأن يمتلئ جوف أحدكم من عانته إلى لهاته " وتظهر مناسبته للثاني لأن مقابله - وهو الشعر - محله القلب لأنه ينشأ عن الفكر، وأشار ابن أبي جمرة إلى عدم الفرق في امتلاء الجوف من الشعر بين من ينشئه أو يتعانى حفظه من شعر غيره وهو ظاهر، وقوله "قيحا " بفتح القاف وسكون التحتانية بعدها مهملة المدة لا يخالطها دم، وقوله "شعرا " ظاهره العموم في كل شعر، لكنه مخصوص بما لم يكن مدحا حقا كمدح الله ورسوله وما اشتمل على الذكر والزهد وسائر المواعظ مما لا إفراط فيه، ويؤيده حديث عمرو بن الشريد عن أبيه عند مسلم كما أشرت إليه قريبا، قال ابن بطال: ذكر بعضهم أن معنى قوله " خير له من أن يمتلئ شعرا " يعني الشعر الذي هجي به النبي صلى الله عليه وسلم. وقال أبو عبيد: والذي عندي في هذا الحديث غير هذا القول، لأن الذي هجي به النبي صلى الله عليه وسلم لو كان شطر بيت لكان كفرا، فكأنه إذا حمل وجه الحديث على امتلاء القلب منه أنه قد رخص في القليل منه، ولكن وجهه عندي أن يمتلئ قلبه من الشعر حتى يغلب عليه فيشغله عن القرآن وعن ذكر الله فيكون الغالب عليه، فأما إذا كان القرآن والعلم الغالبين عليه فليس جوفه ممتلئا من الشعر. قلت: وأخرج أبو عبيد التأويل المذكور من رواية مجالد عن الشعبي مرسلا فذكر الحديث وقال في آخره: يعني من الشعر الذي هجي به النبي صلى الله عليه وسلم. وقد وقع لنا ذلك موصولا من وجهين آخرين، فعند أبي يعلى من حديث جابر في الحديث المذكور " قيحا أو دما خير له من أن يمتلئ شعرا هجيت به " وفي سنده راو لا يعرف، وأخرجه الطحاوي وابن عدي من رواية ابن الكلبي عن أبي صالح عن أبي هريرة مثل حديث الباب قال " فقالت عائشة لم يحفظ إنما قال: من أن يمتلئ شعرا هجيت به"، وابن الكلبي واهي الحديث، وأبو صالح شيخه ما هو الذي يقال له السمان المتفق على تخريج حديثه في الصحيح عن أبي هريرة، بل هذا آخر ضعيف يقال له باذان، فلم تثبت هذه الزيادة. ويؤيد تأويل أبي عبيد ما أخرجه البغوي في " معجم الصحابة " والحسن بن سفيان في مسنده والطبراني في " الأوسط " من حديث مالك بن عمير السلمي أنه شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الفتح وغيرها وكان شاعرا فقال " يا رسول الله أفتني في الشعر " فذكر الحديث وزاد " قلت يا رسول الله امسح على رأسي، قال فوضع يده على رأسي فما قلت بيت شعر بعد " وفي رواية الحسن بن سفيان بعد قوله " على رأسي " " ثم أمرها على كبدي وبطني " وزاد البغوي في روايته: " فإن رابك منه شيء فاشبب بامرأتك وامدح راحلتك " فلو كان المراد الامتلاء من الشعر لما أذن له في شيء منه. بل دلت الزيادة الأخيرة على الإذن في المباح منه. وذكر السهيلي في غزوة ودان عن جامع ابن وهب أنه روي فيه أن عائشة رضي الله عنها تأولت هذا الحديث على ما هجي به النبي صلى الله عليه وسلم، وأنكرت على من حمله على العموم في جميع الشعر، قال السهيلي: فإن قلنا بذلك فليس في الحديث إلا عيب امتلاء الجوف منه، فلا يدخل في النهي رواية اليسير على سبيل الحكاية، ولا الاستشهاد به في اللغة. ثم ذكر استشكال أبي عبيد وقال: عائشة أعلم منه، فإن الذي يروي ذلك على سبيل الحكاية لا يكفر، ولا فرق بينه وبين الكلام الذي ذموا به النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا هو الجواب عن صنيع ابن إسحاق في إيراده بعض أشعار الكفرة في هجو المسلمين، والله أعلم. واستدل بتأويل أبي عبيد على أن مفهوم الصفة ثابت باللغة، لأنه فهم منه أن غير الكثير من الشعر ليس كالكثير فخص الذم بالكثير الذي دل عليه الامتلاء دون القليل منه فلا يدخل في الذم. وأما من قال إن أبا عبيد بنى هذا التأويل على اجتهاده فلا يكون ناقلا للغة، فجوابه أنه إنما فسر حديث النبي صلى الله عليه وسلم في كتابه على ما تلقفه من لسان العرب لا على ما يعرض في خاطره لما عرف من تحرزه في تفسير الحديث النبوي. وقال النووي: استدل به على كراهة الشعر مطلقا وإن قل وإن سلم من الفحش. وتعلق بقوله في حديث أبي سعيد " خذوا الشيطان". وأجيب باحتمال أن يكون كافرا، أو كان الشعر هو الغالب عليه، أو كان شعره الذي ينشده إذ ذاك من المذموم. وبالجملة فهي واقعة عين يتطرق إليها الاحتمال ولا عموم لها فلا حجة فيها، وألحق ابن أبي جمرة بامتلاء الجوف بالشعر المذموم حتى يشغله عما عداه من الواجبات والمستحبات الامتلاء من السجع مثلا ومن كل علم مذموم كالسحر وغير ذلك من العلوم التي تقسي القلب وتشغله عن الله تعالى وتحدث الشكوك في الاعتقاد وتفضي به إلى التباغض والتنافس. (تنبيه) : مناسبة هذه المبالغة في ذم الشعر أن الذين خوطبوا بذلك كانوا في غاية الإقبال عليه والاشتغال به، فزجرهم عنه ليقبلوا على القرآن وعلى ذكر الله تعالى وعبادته، فمن أخذ من ذلك ما أمر به لم يضره ما بقي عنده مما سوى ذلك، والله أعلم.
|